فصل: باب النُّسْكُ شَاةٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْغَزْوِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ عليه السَّلام إِذَا قَفَلَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمرةٍ أَوْ غزْوِ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ‏)‏‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ استعمال حمد الله تعالى والإقرار بنعمته، والخضوع له، والثناء عليه عند القدوم من الحج والجهاد على ما وهب من تمام المناسك، وما رزق من النصرة على العدو، والرجوع إلى الوطن سالمين، وكذلك يجب إحداث الحمد لله والشكر له على ما يحدث على عباده من نعمه، فقد رضى من عباده بالإقرار له بالوحدانية، والخضوع له بالربوبية، والحمد والشكر عوضًا مما وهبهم من نعمه تفضلا عليهم ورحمة لهم‏.‏

وفى هذا الحديث بيان أن نهيه عليه السلام عن السجع فى الدعاء أنه على غير التحريم؛ لوجود السجع فى دعائه ودعاء أصحابه، فيحمل أن يكون نهيه عن السجع يتوجه إلى حسن الدعاء خاصة، خشية أن يشتغل الداعى بطلب الألفاظ وتعديل الأقسام عن إخلاص النية وإفراغ القلب فى الدعاء والاجتهاد فيه، وسأزيد فى بيان هذا المعنى فى باب‏:‏ ما يكره من السجع فى الدعاء‏.‏

فى كتاب الدعاء إن شاء الله‏.‏

باب اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ جواز تلقى القادمين منالحج تكرمة لهم وتعظيمًا؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينكر تلقيهم له، بل سُرَّ به لحمله لهم بين يديه وخلفه، ويدخل فى معنى ذلك من قدم منالجهاد أو من سفر فيه طاعة لله، فلا بأس بالخروج إليه وتلقيه، تأنسًا له وصلةً‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه رد قول من يقول‏:‏ لا يجوز ركوب ثلاثة على دابة، وإنما أصل هذا ألا يكلف الدابة حمل ما لا تطيق، أو ما تطيقه بمشقة ظاهرة، فإذا أطاقت حمل ثلاثة وأربعة جاز ركوبها‏.‏

وسيأتى اختلاف العلماء فى ركوب الثلاثة على الدابة فى آخر كتاب الزينة، فإنه ترجم لهذا الحديث باب‏:‏ الثلاثة على الدابة‏.‏

باب الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ عليه السَّلام إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ‏.‏

إنما اختار عليه السلام القدوم بالغداة والله أعلم ليتقدم خبره إلى أهله، ويتأهبوا للقائه، فيقدم على ذلك، والله أعلم‏.‏

باب الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ

الدخول بالعشى مباح، وإنما الذى نهى عنه عليه السلام عن أن يطرق القادمُ أهلَهُ‏.‏

باب لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ

- فيه‏:‏ جَابِرٍ، قَالَ‏:‏ نَهَى الرسول صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلا‏.‏

قد جاء فى الحديث بيان المعنى الذى من أجله نهى الرسول عن هذا، وهى تممتشط الشعثة، وتستحد المغيبة، كراهية أن يهجم منها على ما يقبح عنده اطلاعه عليه، فيكون سببًا إلى شنآنها وبغضها، فنبههم عليه السلام على ما تدوم به الألفة بينهم، ويتأكد به المحبة، فينبغىلمن أراد الأخذ بأدب نبيه أن يتجنب مباشرة أهله فى حال البذاذة وغير النظافة، وألا يتعرض لرؤية عورة يكرها منها، ألا ترى أن الله تعالى أمر من لا يبلغ الحلم بالاستئذان قبل صلاة الفجر ووقت الظهيرة وبعد العشاء؛ لما كانت هذه أوقات التجرد والخلوة، خشية الاطلاع على العورات وما يكره النظر إليه، وروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ آية لم يؤمن بها أكثر الناس؛ آية الإذن، وإنى لآمر جاريتى هذه أن تستأذن على‏.‏

باب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا‏.‏

وقال إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، ‏(‏جُدُرَاتِ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من حبها‏)‏ يعنى لأنها وطنه، وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل الله النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة، وأمر أمته سرعة الرجوع إلى أهلهم عند انقضاء أسفارهم‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏

- فيه‏:‏ الْبَرَاءَ، قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا، كَانَتِ الأنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

وقال مجاهد فى هذه الآية‏:‏ كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثقب كوة فى ظهر بيته وجعل سلمًا، فجعل يدخل منها‏.‏

وقال معمر عن الزهرى‏:‏ كان الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شىء يتحرجون من ذلك، وكان الرجل حين يخرج مهلا بالعمرة، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع، لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيقتحم الجدار من ورائه، حتى بلغنا أن النبى عليه السلام أهل من الحديبة بالعمرة فدخل حجرته، فدخل رجل من الحمس من ورائه، فقال له الأنصار، فقال‏:‏ أنا أحمسى‏.‏

فقال‏:‏ وأنا على دينك؛ لأن الحمس كانت لا تبالى ذلك؛ فأنزل الله‏:‏ ‏(‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

باب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ حض وندب على سرعة رجوع المسافر إلى أهله عند انقضاء حاجته، وقد بين عليه السلام المعنى فى ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه‏)‏ فامتناع هذه الثلاثة التى هى أركان الحياة مع ما ينضاف إليها من شقة السفر وتعبه، هو العذاب إلى أشار إليه، ولذلك قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله‏)‏ لكى يتعوض من ألم ما ناله، من ذلك الراحة والدعة فى أهله، والعرب تشبه الرجل فى أهله بالأمير، وقيل فى قوله‏:‏ ‏(‏وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏ قال‏:‏ من كان له دار وخادم فهو داخل فى معنى الآية‏.‏

وقد أخبر الله تعالى بلطف محل الأزواج من أزواجهن بقوله‏:‏ ‏(‏وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏ فقيل‏:‏ المودة‏:‏ الجماع، والرحمة‏:‏ الولد‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى ابن عمر وابن عباس، عن النبى عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏سافروا تصِحُوا وتغنموا‏)‏ وهو مخالف لحديث أبى هريرة‏.‏

قيل‏:‏ لا خلاف بين شىء من ذلك، وليس كون السفر قطعة من العذاب بمانع أن يكون فيه منفعة ومصحة لكثير من الناس؛ لأن فى الحركة والرياضة منفعة، ولا سيما لأهل الدعة والرفاهية، كالدواء المرّ المُعْقِب للصحة وإن كان فى تناوله كراهية، فلا خلاف بين الحديثين‏.‏

قال أبو محمد الأصيلى‏:‏ انفرد مالك بهذا الحديث عن سُمَىٍّ وقال‏:‏ هؤلاء أهل العراق يسألوننى عنه‏.‏

قيل له‏:‏ لأنك انفردت به‏.‏

قال‏:‏ لو أعلم أنى انفردت به ما حدثت به‏.‏

باب الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنِّى رَأَيْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا‏.‏

فيه‏:‏ جواز الإسراع على الدواب عند الحاجة تَعْرِضُ، ولا سيما عند خبرٍ مقلق يبلغه عن أهله‏.‏

باب المحصر وجزاء الصيد

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ الإحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ‏.‏

الإحصار‏:‏ ينقسم قسمين‏:‏ فإحصار بعدو، وإحصار بمرض، وأصل الإحصار فى اللغة‏:‏ المنع والحبس، واختلف فى ذلك أهل اللغة، فقال بعضهم‏:‏ يقال من العدو‏:‏ حُصِرَ، فهو محصور، ويقال من المرض‏:‏ أُحصِر، فهو محصر هذا قول الكسائى وأبى عبيد، ذكره ابن القصار‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يقال‏:‏ أحصر من المرض ومن العَدوّ ومن كل شىء حبس الحاج، كما قال عطاء، وهو قول النخعى والثورى والكوفيين، وهو قول الفراء وأبى عمرو، والحجة لذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وإنما نزلت هذه الآية بالحديبية، وكان حبسهم يومئذٍ بالعدو، قال أبو عمرو‏:‏ يقالُ‏:‏ حَصرنى الشىء وأحصرنى‏:‏ حبسنى‏.‏

وحكم الإحصار بعدو مخالف لحكم الإحصار بمرض عند جمهور العلماء على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِى الْفِتْنَةِ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ‏.‏

- وقال أيضًا‏:‏ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ، وَإِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِى‏)‏، فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى، وَكَانَ يَقُولُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَدْ أُحْصِرَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَحَلَقَ وحل مع نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلا عوضه‏.‏

فى هذه الترجمة‏:‏ رَدُّ قول من يقول أن من أحصر فى العمرة بعدوٍّ أنه لابد له من الوصال إلى البيت والاعتمار؛ لأن السَّنَةَ كُلَّها وقت للعمرة بخلاف الحج، ولا إحصار فى العمرة، ويقيم على إحرامه أبدًا، وهو قول لبعض السلف، وهو مخالف لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان مُعْتمرًا بالحديبية وهو وجميع أصحابه حَلُّوا دون البيت، والفقهاء على خلافه، حكم الإحصار فى الحج والعمرة عندهم سواء‏.‏

واختلف فيمن أحصر بعدو، فقال مالك والشافعى‏:‏ لا حصر إلا حصر العدو‏.‏

وهو قول ابن عباس وابن عمر، ومعنى ذلك أنه لا يحل للمحصر أن يحل دون البيت إلا من حَصَره العدو، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وكان حصره بالعدو، واحتج الشافعى فقال‏:‏ على الناس إتمام الحج والعمرة، ورخص الله فى الإحلال للمحصر بعدو، فقلنا فى كُلٍّ بأَمْر الله، ولم نَعْدُ بالرخصة موضعها، كما لم نَعْدُ بالرخصة المسح على الخفين، ولم نجعل عمامة ولا قفازين قياسًا على الخفين‏.‏

وخالف الشافعى مالكًا فأوجب عليه الهدى، ينحره فى المكان الذى حُصر فيه وقد حَلَّ، كما فعل النبى عليه السلام بالحديبية، وهو قول أشهب، وقال أبو حنيفة‏:‏ الهدى واجب عليه أن ينحره فى الحرم وقد حَلَّ‏.‏

واحتجوا بإيجاب الهدى عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ الآية فأجابهم الكوفيون أن هذا إحصار مرض، ولو كان إحصار عدو لم يكن فى نحر أهل الحديبية حجة؛ لأن ما كان معهم من الهدى لم يكونوا ساقوه لما عرض لهم من حصر العدو؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم حين قلده أنه يُصَد، وإنما ساقه تطوعًا، فلما صُد أخبر الله تعالى عن صدهم وحبسهم الهدى عن بلوغ محله، وكيف يجوز أن ينوب هدى قد ساقه عليه السلام قبل أن يُصَدَّ عن دم وجب بالصَّدِّ، ولم يأمرهم عليه السلام بدمٍ لحصرهم، قاله جابر بن عبد الله، ولو وجب عليهم الهدى لأمرهم به كما أمرهم بالحلق الذى وجب عليهم، فكيف يُنقل الحلق ولا يُنقل إيجاب الهدى، وهو يحتاج إلى بيان من معه هدى ما حكمه‏؟‏ ومن لا هدى معه ما حكمه‏؟‏ وأما قول أبى حنيفة‏:‏ ينحره فى الحرم، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ يدل أن التقصير عن بلوغ المحل سواء كان ذلك فى الحل أو الحرم اسم التقصير واقع عليه إذا لم يبلغ مكة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وقول ابن عمر‏:‏ ‏(‏إنما شأنهما واحد‏)‏ يعنى‏:‏ الحج والعمرة فى اجتناب ما يجتنبه المحرم بالحج وفى العمل لهما؛ لأن طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا يجزئ القارن عنده‏.‏

واختلفوا فيمن أحصر بمرض، فقال مالك‏:‏ لا يجوز لمن أحصر بمرض أن يحل دون البيت بالطواف والسعى الذى هو عمل العمرة، ثم عليه حج قابل والهدى‏.‏

وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وروى عن ابن عمر وابن عباس‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ المحصر بالمرض الذى حيل بينه وبين البيت، وحكمه حكم المحصر بالعدو، فعليه أن يبعث بهديه إلى الحرم، فإذا عَلم أنه قد نُحر عنه حَلَّ فى مكانه من غير عمل عمرة، وإنما لم يَرَ عليه عمرة؛ لأنه محرم، والعمرة تحتاج إلى إحرام مستأنف، ولا يدخل إحرام على إحرام‏.‏

وهو قول النخعى وعطاء والثورى‏.‏

واحتجوا بحديث الحجاج بن أبى عثمان الصواف، عن يحيى بن أبى كثير قال‏:‏ حدثنا عكرمة قال‏:‏ حدثنى الحجاج بن عمرو قال‏:‏ سمعت النبى عليه السلام يقول‏:‏ ‏(‏من كُسر أو عرج فقد حَلَّ‏)‏ يحتمل أن يكون معناه‏:‏ فقد حل له أن يحل إذا نحر الهدى فى الحرم، لا على أنه قد حَلَّ بذلك من إحرامه، كما يقال‏:‏ حَلَّتْ فلانة للرجل، إذا خرجت من عدتها، ليس على معنى أنها قد حلت للأزواج، فيكون لهم وطؤها، ولكن على معنى أنهم قد حل لهم تزويجها، فيحل لهم حينئذٍ وطؤها‏.‏

هذا سائغ فى الكلام، وهذا يوافق معنى حديث ابن عمر أن النبى عليه السلام لم يحل من عمرته بحصر العدو إياه حتى نحر الهدى، ومعنى هذا الحديث عند أهل المقالة الأولى ‏(‏فقد حل‏)‏ يعنى‏:‏ إذا وصل البيت فطاف وسعى، حلا كاملا، وحَلَّ له بنفس الكسر والعرج أن يفعل ما شاء من إلقاء التفث ويفتدى، وليس للصحيح أن يفعل ذلك‏.‏

فقال الترمذى‏:‏ سألت البخارى عن هذا الحديث فقال‏:‏ رواه عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبى عليه السلام وهو يروى عن عكرمة، عن الحجاج، قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وهذا إسناد صالح من أسانيد الشيوخ، ولكن أحاديث الثقات تضعفه‏.‏

وذلك ما حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة قال‏:‏ خرجت معتمرًا حتى إذا كنت بالدثينة وقعت عن راحلتى فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا‏:‏ ليس لها وقت كوقت الحج، يكون عرى إحرامه حتى يصل إلى البيت‏.‏

وحدثنا على، حدثنا سفيان قال عمرو‏:‏ أخبرنى ابن عباس قال‏:‏ لا حصر إلا حصر العدو‏.‏

ورواه ابن جريح ومعمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ فقد بان بما رواه الثقات عن ابن عباس فى هذا الباب أنه خلاف لما رواه حجاج الصواف عن يحيى بن أبى كثير؛ لأن ابن عباس حصر الحصر بالعدو دون غيره، فبان أن مذهبه كمذهب ابن عمر‏.‏

قال غيره‏:‏ من الحجة لمالك فى أن المحصر بمرض لا يحله إلا البيت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ فأعلمنا تعالى أنهم حبسوا الهدى عن بلوغ محله، فينبغى أن يكون بلوغ محله شرطًا فيه مع القدرة عليه، وأما قوله‏:‏ ‏(‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏‏.‏

فالمخاطب بذلك‏:‏ الآمن الذى يجد السبيل إلى الوصول إلى البيت، والمريض آمن يمكنه ذلك، وقول الكوفيين ضعيف وفيه تناقض؛ لأنهم لا يجيزون لمحصرٍ بعدوٍ ولا بمرضٍ أن يحل حتى ينحر فى الحرم، وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث هديه، ويواعد حامله يومًا ينحره فيه فيلحق ويحل، أجازوا له الإحلال بالظنون، فالعلماء متفقون أنه لا يجوز لمن لزمه فرض أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم أنه لو عطب الهدى أو ضل أو سرق فحل مرسله، وأصاب النساء وصَادَ، أنه يعود حرامًا، وعليه جزاء ما صاد، وأباحوا له فساد الحج بالجماع، وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه، وهذا تناقض لا شك فيه‏.‏

واحتج الكوفيون بحديث ابن عباس وقوله‏:‏ ‏(‏حتى اعتمر عامًا قابلا‏)‏ فى وجوب قضاء الحج والعمرة على من أحصر فى أحدهما بعدو‏.‏

وقال أهل الحجاز‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏حتى اعتمر عامًا قابلا‏)‏ هو ما عقده معهم فى صلح الحديبية ألا يمنعوه البيت عامًا قابلا، ولا يحال بينهم وبينه، فإما أن يكون ما فعلوه من العُمَر قضاء عن عمرة الحديبية، ففيه التنازع فيحتاج إلى دليل، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى باب‏:‏ من قال ليس على المحصر بدل إن شاء الله‏.‏

وقول ابن عباس‏:‏ ‏(‏قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ حجة على من قال‏:‏ لا يقال‏:‏ أحصره العدو، وإنما يقال‏:‏ حصره العدو، وأحصره المرض، واحتج بقول ابن عباس‏:‏ لا حصر إلا حصر العدو‏.‏

واحتج به ابن القصار، فيقال له‏:‏ هذا ابن عباس قد قال‏:‏ ‏(‏أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ وأجمع المسلمون أن النبى عليه السلام لم يُحصر بمرض، وإنما أحصر بعدو عام الحديبية، فثبت أنه قال‏:‏ حصره العدو، وأحصره القتال، وقوله‏:‏ ‏(‏أشهدكم أنى قد أوجبت حجة مع عمرتى‏)‏ فهو حجة لمن قال‏:‏ إن الحج يرتدف على العمرة‏.‏

روى معمر عن منصور، عن مالك بن الحارث قال‏:‏ ‏(‏لقيت عليا وقد أهللت بالحج، فقلت له‏:‏ هل أستطيع أن أضيف مع حجتى عمرة‏؟‏ قال‏:‏ لا، ذلك لو كنت بدأت بالعمرة ضممت إليها حجا‏)‏‏.‏

وهذا قول مالك وأبى حنيفة، قالا‏:‏ ويصير قارنًا‏.‏

قال مالك‏:‏ ولا تدخل العمرة على الحج، وهو قول أبى ثور وإسحاق، وقال الكوفيون‏:‏ يجوز ذلك ويصير قارنًا‏.‏

وقال الشافعى بالعراق كقول الكوفى، وقال بمصر‏:‏ أكثر من لقيت يقول لى‏:‏ ليس له ذلك‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والحجة لقول مالك أن أصل الأعمال ألا يدخل عمل على عمل، ولا صلاة على صلاة، ولا صوم على صوم، ولا حج على حج، ولا عمرة على عمرة، إلا ما خصت السنة مكن إدخال الحج على العمرة، وعلى أن الذى يحرم بعمرة إذا ضم إليها حجا، فقد ضم إلى العمل الذى كان دخل فيه وألزمه نفسه أعمالا لم تكن لزمته أحرم بالعمرة، مثل‏:‏ الخروج إلى منى، والوقوف بالموقفين، ورمى الجمار، والمقام بمنى، وغير ذلك من أعمال الحج، والذى يضم إلى الحج لم يضم إليها عملا؛ لأن عمل المنفرد والقارن واحد، والذى يعتمد عليه فى هذا الباب السنة وإجماع الأمة‏.‏

باب الإحْصَارِ فِى الْحَجِّ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلا، فَيُهْدِى أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا‏.‏

واحتج ابن عمر فيمن أحصر فى الحج أنه يلزمه ما يلزم من أحصر فى العمرة، وحكم الحج والعمرة فى الإحصاء سواء، وقاس الحج على العمرة، والنبى عليه السلام لم يحصر فى حج، إنما حصر فى عمرة، هذا أصل فى إثبات القياس لاستعمال الصحابة له وقوله‏:‏ ‏(‏طاف بالبيت‏)‏ يعنى‏:‏ فيطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحل ويكون محصرًا بمكة‏.‏

واختلف العلماء فيمن أحصر بمكة، فقال الشافعى وأبو ثور‏:‏ حكم الغريب والمكى سواء، ويطوف ويسعى ويحل، ولا عمرة عليه على ظاهر حديث ابن عمر‏.‏

وأوجبها مالك على المحصر المكى، وعلى من أنشأ الحج من مكة، وقال‏:‏ لابد لهم من الخروج إلى الحل لاستئناف عمرة التحلل؛ لأن الطواف الأول لم يكن نواهُ للعمرة، لذلك يعمل بهذا‏.‏

وفرق بين هؤلاء وبين الغريب يدخل من الحل محرمًا فيطوف ويسعى، ثم يحصره العدو عن الوقوف بعرفة، أنه لا يحتاج إلى الخروج إلى حل؛ لأنه منه دخل، ولم يحل من إحرامه فيتحلل بعمرة يُنْشِئُها من مكة، قال أبو حنيفة‏:‏ لا يكون مُحْصَرًا من بلغ مكة؛ لأن الإحصار عنده من مُنع من الوصول إلى مكة، وحِيل بينه وبين الطواف والسعى، فيفعل ما فعل النبى صلى الله عليه وسلم من الإحلال بموضعه‏.‏

وأما من بلغ مكة فحكمه عنده حكم من فاته الحج، يحل بعمرة وعليه الحج من قابل، ولا هدى عليه؛ لأن الهدى لجبر ما أدخله على نفسه، ومن حُبس عن الحج فلم يدخل على نفسه نقصًا‏.‏

وقال الزهرى‏:‏ إذا أحصر المكى فلابد له من الوقوف بعرفة وإن تَعَسَّ بعساء، وفى حديث ابن عمر رد على ابن شهاب؛ لأن المحصر لو وقف بعرفة لم يكن محصرًا؛ ألا ترى قول ابن عمر‏:‏ فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة، ولم يذكر الوقوف بعرفة، وفيه أيضًا رَدُّ قول أبى حنيفة أن من كان بمكة لا يكون محصرًا، وقد استدل ابن عمر على أنه يكون محصرًا بقوله‏:‏ ‏(‏أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج‏)‏ والحبس عن الحج هو الإحصار عند أهل اللغة، وقول ابن عمر‏:‏ ‏(‏ثم حل من كل شئ حتى يحج عامًا قابلا ويهدى هديًا‏)‏ معناه عند الحجازيين‏:‏ إن كان صُدَّ و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ ومعنى الهدى المصدودة إذا قضى الحج، إنما هو من أجل وقوع الحج الذى كان يقع له فى سفر واحد فى سفرين، وكذلك معنى هدى الإحصار بمرض‏.‏

باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِى الْمَحَصْرِ

- فيه‏:‏ الْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام مُعْتَمِرِينَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىّ عليه السَّلام بُدْنَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ النحر قبل الحلق للمحصر وغيره من ظاهر كتاب الله قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ إلا أن سنة المحصر أن ينحر هديه حيث أحصر، وإن كان فى الحل؛ اقتداءً بما فعل النبى عليه السلام فى الحديث، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ أى‏:‏ محبوسًا، ولما سقط عنه عليه السلام أن يبلغ محله سقط من هديه، وأما قوله‏:‏ ‏(‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏ فقد ذكرنا قبل هذا أن المخاطب به الآمن الذى يجد السبيل إلى الوصول إلى البيت والله أعلم وليس للمحصَر بعدوٍّ أن يفعل شيئًا مما يحرم على المحرمين حتى ينحر هديه، كما فعل النبى عليه السلام فإن فعل شيئًا من ذلك فعليه الفدية، استدلالا بأن النبى عليه السلام أمر كعب بن عجرة بالفدية لمَّا حلق، وهذا قول مالك والشافعى‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واختلفوا فى المحصَر إذا نحر هديه، هل يحلق رأسه أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله‏.‏

هذا قول أبى حنيفة ومحمد، وقال آخرون‏:‏ بل يحلق؛ فإن لم يحلق فلا شىء عليه‏.‏

هذا قول أبى يوسف‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاج والمعتمر، وهو قول مالك، فكان من حجة أبى حنيفة فى ذلك أنه قد سقط عنه بالإحصار جميع مناسك الحج من الطواف والسعى بين الصفا والمروة، وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه، ألا ترى أنه إذا طاف بالبيت يوم النحر حل له أن يحلق، فيحل له بذلك الطيب واللباس، فلما كان ذلك مما يفعله حين يحل فسقط ذلك عنه بالإحصار، سقط عنه سائر ما يحل به المحرم بسبب الإحصار‏.‏

وكان من حجة الآخرين عليهم فى ذلك أن تلك الأشياء من الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار قد صُدَّ عنه المحرم، وحيل بينه وبينه، فسقط عنه أن يفعله، والحلق لم يحل بينه وبينه، وهو قادر على فعله، فما كان يصل إلى فعله فحكمه فيه فى حال الإحصار كحكمه فيه فى غير حال الإحصار، وما لا يستطيع أن يفعله فى حال الإحصار فهو الذى يسقط عنه، وقد ثبت عنه عليه السلام أنه حلق حين صُدَّ، فى حديث ابن عمر والمسور، وليس لأحد قياس مع وجود السنة الثابتة‏.‏

وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين يوم الحديبية ثلاث مرات، ودعا للمقصرين مرة واحدة، فقيل له‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، لم ظاهرت الترحم على المحلقين‏؟‏ قال‏:‏ لأنهم لم يَشْكُّوا‏)‏ فثبت بتفصيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلق على من قصر أنه قد كان عليهم الحلق والتقصير، كما يكون عليهم لو وصلوا إلى البيت، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلا سواء، ولا كان لبعضهم فى ذلك فضيلة على بعض، فبان أن حكم الحلق والتقصير لا يزول بالإحصار‏.‏

باب مَنْ قَالَ‏:‏ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ

وَقَالَ ابْن عَبَّاس‏:‏ إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ، إِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏.‏

وقال مَالِكٌ وَغَيْرُهُ‏:‏ يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ فِى أَىِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْىُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقضى شَيْئًا، وَلا يَعُودُوا لَهُ، وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِى أَمْرِهِ، فَقَالَ‏:‏ مَا أَمْرُهُمَا إِلا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ‏.‏

ولهذا اختلف السلف فى هذا الباب، فذهب ابن عباس إلى أن المحصر لا بدل عليه ولا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ ذكره عنه عبد الرزاق وقال‏:‏ لا حصر إلا من حُبِسَهُ بعدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج قابل ولا عمرة، فإن حبس وكان معه هدى بعث به ولم يحل حتى ينحر الهدى، وإن لم يكن معه هدى حل مكانه، وذكر عطاء عن ابن عباس فى الذى يفوته الحج قال‏:‏ يحل بعمرة وليس عليه حج قابل‏.‏

وعن طاوس مثله، وروى ابن الماجشون عن مالك فى المحصر بعَدُوٍّ يحل لِسُنَّةِ الإحصار ويجزئه من حجة الإسلام، وهو قول أبى مصعب صاحب مالك ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ به لمحمد بن سحنون‏.‏

وقال ابن شعبان‏:‏ يجزئه من حجة الإسلام وإن صُدَّ قبل أن يحرم‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ إنما استحب له مالك القضاء‏.‏

وفيها قول آخر روى عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت أنه يحل بعمرة وعليه حج قابل والهدى، وهو قول عروة‏.‏

وقال علقمة والنخعى‏:‏ عليه حجة وعمرة‏.‏

وهو قول الكوفيين، وقال مجاهد والشعبى‏:‏ عليه حج قابل‏.‏

وقال مالك فى المدونة‏:‏ لا قضاء على المحصر بعدو فى حج التطوع ولا هدى عليه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحاب الحديبية بقضاء ولا هدى، إلا أن تكون حجة الإسلام، فعليه حج قابل والهدى‏.‏

وبه قال الشافعى وأبو ثور‏.‏

واحتج الكوفيون بأن النبى صلى الله عليه وسلم لما صُدَّ فى الحديبية قضاها فى العام القابل، فسميت عمرة القضاء‏.‏

واحتج أصحاب مالك فقالوا‏:‏ هذه التسمية ليست من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه، وإنما هى من أهل السير، فليس فيها حُجَّة، ولم تُسم عمرة القضاء من أجل ما ذكروه، وإنما سميت من أجل أن النبى عليه السلام قَاضَى عام الحديبية قُريشًا وصالحهم لمدة من الزمان، وعلى أن يرجع إلى مكة فى العام المقبل، ولو وجب عليهم القضاء لعرفهم به وقال‏:‏ هذه العمرة لى ولكم قضاء عن التى صُددنا عنها؛ لأن الله تعالى فرض عليه البيان والتبليغ، فلما لم يعرفهم بذلك ولا أمرهم به دل أنه لم يكن واجبًا، ووجه إيجاب مالك عليه الهدى من أجل أن إحرامه حيل بينه وبين تمامه بالوصول إلى البيت‏.‏

وجعل أبو حنيفة العمرة عوضًا من ذلك، فإن قيل‏:‏ فما وجه ذكر حديث ابن عمر فى هذا الباب، وليس فى لفظه ما يدل على الترجمة‏؟‏ قيل‏:‏ وجه ذلك والله أعلم أن البخارى استغنى بشهرة قصة صَدِّ النبى عليه السلام بالحديبية، وأنهم لم يؤمروا بالقضاء فى ذلك لأنها لم تكن حجة الفريضة، وإنما كانوا محرمين بعمرة، فلذلك قال مالك‏:‏ لا قضاء على المحصر بعدوٍ للحج إذا كان تطوعًا، كما لم يكن على الرسول صلى الله عليه وسلم قضاء العمرة التى صُدَّ عنها؛ لأنه لم يعرفهم فى عمرة القضاء أنها قضاء عن التى صُدَّ عنها‏.‏

فهذا الحديث موافق لقول مالك، ولذلك ذكر البخارى قول مالك فى صدر الباب ليدل على أنه مأخوذ من حديث ابن عمر والله الموفق‏.‏

وأما قول البخارى‏:‏ والحديبية خارج المحرم فقد قال مالك‏:‏ إن الحديبية فى الحرم، وكلا القولين له وجه، وذلك أن الحديبية فى أول الحرم، وهو موضع بروك ناقة النبى عليه السلام لأنها لما بركت فى أول الحرم وقال الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حبسها حابس الفيل‏)‏ وصاحب الفيل لم يدخل الحرم، فمن قال‏:‏ إن الحديبية خارج الحرم فممكن أن يريد موضع نزول النبى صلى الله عليه وسلم ومن قال‏:‏ إنها فى الحرم يريد موضع حلاقهم ونحرهم‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى أن الهدى إذا صد عن الحرم نحر فى غير الحرم، واحتجوا بهذا الحديث وقالوا‏:‏ إنما نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية إِذْ صُدَّ، دل على أن لمن منع من إدخال هديه فى الحرم أن يذبحه فى غير الحرم، وهذا قول مالك‏.‏

وخالفهم آخرون فقالوا‏:‏ لا يجوز نحر الهدى إلا فى الحرم، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فكان الهدى قد جعله الله ما بلغ الكعبة، فهو كالصيام الذى جعله الله متتابعًا فى كفارة الظهار وكفارة القتل، فلا يجوز غير متتابع، وإن كان الذى وجب عليه غير مطيق للإتيان به متتابعًا، فلا تبيحه الضرورة أن يصومه متفرقًا‏.‏

كذلك الهدى الموصوف ببلوغ الكعبة لا يجزئ إلا كذلك وإن صُدَّ عن بلوغ الكعبة، واحتجوا بأن نحر النبى صلى الله عليه وسلم لهديه حين صُدَّ كان فى الحرم، والدليل على ذلك ما رواه إسرائيل عن مجزأة بن زاهر، عن ناجية بن جندب الأسلمى، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏أتيت النبى عليه السلام حين صُدَّ عن البيت فقلت‏:‏ يا رسول الله، ابعث معى بالهدى فلأنحره فى الحرم، قال‏:‏ وكيف تأخذ به‏؟‏ قلت‏:‏ آخذ به فى أودية لا يقدرون علىّ فيها، فبعثه معى حتى نحرته‏)‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كان النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديبية وهو يقدر على دخول الحرم، ولم يكن صُد عن الحرم، وإنما صُد عن البيت‏.‏

واحتجوا بحديث رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن عروة، عن المسور ‏(‏أن النبى عليه السلام كان بالحديبية خباؤه فى الحل، ومُصَلاه فى الحرم‏)‏‏.‏

ولا يجوز فى قول أحد من العلماء لمن قدر على دخول شىء من الحرم أن ينحر هديه دون الحرم‏.‏

فلما ثبت الحديث الذى ذكرناه أن الرسول كان يصل إلى الحرم، استحال أن يكون نحر الهدى فى غير الحرم؛ لأن الذى يبيح نحر الهدى فى غير الحرم إنما يبيحه فى حال الصَّدِّ عن الحرم، لا فى حال القدرة على دخوله، فانتفى بما ذكرناه أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم نحر الهدى فى غير الحرم، وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد‏.‏

وقد احتج أهل المقالة الأولى بما روى سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، عن أبى أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال‏:‏ ‏(‏خرجت مع على وعثمان، رضى الله عنهما، فاشتكى الحسن بالسقيا وهو محرم، فأصابه برسام فأومأ إلى رأسه، فحلق على رأسه، ونحر عنه جزورًا‏)‏‏.‏

ورواه مالك عن يحيى، ولم يذكر عثمان ولا أن الحسن كان محرمًا، فاحتجوا بهذا الحديث؛ لأن فيه أن عليا نحر الجزور دون الحرم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والحجة عليهم فى ذلك أنهم لا يبيحون لمن كأن غير ممنوع من الحرم أن يذبح فى غير الحرم، وإنما يختلفون إذا كان ممنوعًا منه، فدل أن عليا لما نحر فى هذا الحديث فى غير الحرم، وهو واصل إلى الحرم، أنه لم يكن أراد به الهدى، وإنما أراد به الصدقة والتقرب إلى الله، مع أنه ليس فى الحديث أنه أراد به الهدى، فكما يجوز لمن حمله على أنه هدى ما حمله عليه، فكذلك يجوز لمن حمله على أنه ليس بهدى ما حمله عليه‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏

وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ - فيه‏:‏ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أن النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فَمَن كَانَ مِنكُم ‏(‏معناه‏:‏ من حلق ففدية، أجمع العلماء أنه من حلق رأسه لعذر أنه مخير فيما نص الله من الصيام أو الصدقة أو النسك، واختلفوا فيمن حلق أو لبس أو تطيب عامدًا من غير ضرورة، فقال مالك‏:‏ بئس ما فعل، وعليه الفدية وهو مخير فيها‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى وأبو ثور‏:‏ ليس مخيًا إلا فى الضرورة؛ لشرط الله‏)‏ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ فأما إذا حلق أو تطيب أو لبس عامدًا من غير ضرورة فعليه دم‏.‏

وحجة مالك أن السُّنَّة وردت فى كعب بن عجرة فى حلقه رأسه وقد آذاه هوامه، ولو كان حكم غير الضرورة مخالفًا لها لَبَيَّنَهُ عليه السلام، ولما لم تسقط الفدية من أجل الضرورة، علم أن من لم يكن بمضطر أولى ألا تسقط عنه الفدية، وقال مالك والليث والثورى وأبو حنيفة‏:‏ إذا حلق ناسيًا فعليه الفدية كالعامد‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا فدية عليه‏.‏

وهو قول إسحاق‏.‏

واحتج من يقول بأن فرض الحج على غير الفور؛ لأن النبى عليه السلام قال لكعب بن عجرة‏:‏ ‏(‏تؤذيك هوامك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ احلق وانسك بشاة‏.‏

فنزل قوله‏:‏ ‏(‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ وإتمام الشىء حقيقة إنما هو كماله بعد الدخول فيه، وقد يستعمل فى ابتداء الشىء تجوزًا واتساعًا، ولم يُرد الله بقوله‏:‏ ‏(‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ الإكمال بعد الدخول فيه، ولكنه تجوَّز واستعمله فى ابتداء الدخول، يدل على ذلك قول عمر وعلى‏:‏ تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك‏.‏

فأخبر أن التمام فيهما هو ابتداء الدخول فيهما، وهم لم يكونوا فى الحديبية محرمين بالحج فيصح خطابهم بإكماله، وإنما كانوا محرمين بالعمرة، فعلم أن الأمر لهم بإتمام الحج ليس هو أمر بإكماله بعد الدخول فيه، وإنما هو أمر بالدخول فيه ابتداء، فدل هذا أن فرض الحج على غير الفور، وأن أحكام الحج وجبر ما يعرض فيه قد كان نَزَل، وكانت قصة كعب بن عجرة فى الحديبية، والحديبية كانت سنة ست، احتج بهذا أصحاب الشافعى‏.‏

باب قوله‏:‏ ‏(‏أَوْ صَدَقَةٍ ‏(‏وَهِىَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ‏)‏

- فيه‏:‏ كَعْبَ، وَقَفَ عَلَىَّ النبِىّ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِى يَتَهَافَتُ قَمْلا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، وصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ‏)‏‏.‏

لم يختلف الفقهاء أن الإطعام لستة مساكين، وأن الصيام ثلاثة أيام، وأن النسك شاة على ما فى حديث كعب، إلا شىء روى عن الحسن البصرى وعكرمة ونافع أنهم قالوا‏:‏ الإطعام لعشرة مساكين، والصيام عشرة أيام‏.‏

ولم يتابعهم أحد من الفقهاء على ذلك؛ للسُّنَّة الثابتة بخلافه عن كعب بن عجرة فى الفدية، سُنُّة معمول بها عند جماعة العلماء، ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب، ولا رزاها عن كعب إلا رجلان من أهل الكوفة‏:‏ عبد الرحمن بن أبى ليلى، وعبد الله بن معقل، وهى سنة أخذها أهل المدينة من أهل الكوفة‏.‏

باب الإطْعَامُ فِى الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ

- فيه‏:‏ كَعْب، نَزَلَتْ الفدية فِىَّ خَاصَّةً، وَهِىَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى النَّبِىّ عليه السَّلام وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً‏)‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ لا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ‏)‏‏.‏

قال مالك وأبو حنيفة والشافعى‏:‏ الإطعام فى الفدية مدان بِمُدِّ النبى صلى الله عليه وسلم على ما جاء فى حديث كعب‏.‏

وروى عن الثورى وأبى حنيفة أنهما قالا عن الفدية‏:‏ بالبر نصف صاع، ومن التمر أو الشعير أو الزبيب صاع لكل مسكين‏.‏

وهذا خلاف نص الحديث فلا معنى له؛ لأنه قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لكل مسكين نصف صاع‏)‏ فعم بذلك جميع أنواع الطعام، ولم يستثن بعض ما يطعم المساكين أنه بخلاف هذا فيلزم إخراج صاع منه، وقاس أبو حنيفة الأيمان على كفارة فدية الأذى، فأوجب فى كفارة اليمان وسائر الكفارات مدين مدين لكل إنسان، وسيأتى بيان قولهم فى كتاب النذور والكفارات إن شاء الله‏.‏

باب النُّسْكُ شَاةٌ

- فيه‏:‏ كَعْب، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ، وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِىَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ‏.‏

أجمع العلماء أن أقل النسك شاة، وبها أفتى الرسول صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة، وقد ثبت أنه نسك ببقرة، حدثنا به أبو بكر التجيبى قال‏:‏ حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن خليد المقبرى بمكة، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن نافع، عن سليمان بن يسار قال‏:‏ ‏(‏ذبح كعب بقرة‏)‏ فأخذ الكفارات ولم تكن هذه مخالفة للنبى صلى الله عليه وسلم، بل كان موافقة وزيادة، ففى هذا من الفقه أن من أُفتى بأيسر الأشياء وأقل الكفارات أن له أن يأخذ بأعالى الأمور وأرفع الكفارات، كما فعل كعب والله الموفق‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ قوله فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة‏)‏ فيه دليل أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييئس من الوصول فيحل، وقال من احفظ عنه من أهل العلم‏:‏ إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل، فلم يفعل حتى خلى سبيله، أن عليه أن يمضى إلى البيت لتتم مناسكه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فأمره أن يحلق، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها‏)‏ فيه حجة لمالك فى وجوب الكفارة على المرأة تقول فى رمضان‏:‏ غدًا حيضتى، والرجل يقول‏:‏ غدًا يوم حُمَّاى، فيفطران، ثم ينكشف الأمر بالحمى والحيض كما قالا، أنهما عليهما الكفارة؛ لأنهم لم يكن، كما كان فى علم الله من أنهم يحلون بالحديبية، وأن الهدى قد بلغ محله، بمسقط عن كعب الكفارة إذا استباح الحلاق قبل علم الله بأن الهدى قد بلغ محله، فكذلك ما كان فى علم الله من أنها تحيض لا يسقط عنها الكفارة إذا استباحت حُرْمة رمضان قبل علمها بالحيض، وكذلك المريض، إذا قد يجوز أن يكون ما ظنا؛ لأنه لا يقطع على مغيبه‏.‏

باب قوله‏:‏ ‏(‏فَلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جدال فِى الحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّه‏)‏‏.‏

اختلفوا فى الرفث، فروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الرفث فى الحج‏:‏ ما كلم به النساء، وروى مثله عن ابن عمر وعطاء، وروى عن ابن عباس أيضًا أن الرفث‏:‏ الجماع، وهو قول مجاهد والزهرى، وقال ابن عباس‏:‏ الفسوق‏:‏ السباب‏.‏

وقال مجاهد والزهرى‏:‏ الفسوق‏:‏ المعاصى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ الجدال أن تمارى صاحبك حتى تغضبه‏.‏

وقال طاوس‏:‏ هو جدال الناس‏.‏

باب جَزَاءِ الصَّيْدِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

اتفق أئمة الفتوى بالحجاز والعراق أن المحرم أذا قتل الصيد عمدًا أو خطأ فعليه الجزاء، منهم‏:‏ مالك والليث والأوزاعى والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال أهل الظاهر‏:‏ لا يجب الجزاء إلا على من قتل الصيد عمدًا؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95، 96‏]‏ لأن دليل الخطاب يقتضى أن المخطئ بخلافه، وإلا لم يكن لتخصيص المتعمد معنى‏.‏

قالوا‏:‏ وقد روى عن عمر بن الخطاب ما يدل على أن ذلك كان مذهبه، رَوى سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، عن عمر أنه سأل رامى الظبى وقاتله‏:‏ عمدًا أصبته أم خطأ‏؟‏ قالوا‏:‏ ولم يسأله عمر عن ذلك إلا لافتراق العمد والخطأ عنده‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وروى مثله عن ابن عباس‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وذهب جماعة العلماء فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وقالوا‏:‏ لا حجة فى قول عمر للرجل‏:‏ أعمدًا أصبته أم خطأ‏؟‏ لأنه يجوز أن يسأله عن ذلك ليعلمه إن كان قتله عمدًا، ثم قتل بعده صيدًا عمدًا انتقم الله منه، فأراد عمر تحذيره من ذلك، مع أنه قد روى شعبة هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة قال له‏:‏ أعمدًا أصبته أم خطأ‏؟‏ فقال‏:‏ ما أدرى‏.‏

فأمر بالفدية‏.‏

فخالف رواية سفيان، فدل ذلك على أنه سأله عن العمد والخطأ ليقف به على وجوب الانتقام فى العودة، مع أن الأشبه بمذهب عمر مذهب الجماعة، روى شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، أن كعبًا قال لعمر‏:‏ إن قومًا استفتونى فى مُحرم قتل جرادة، فأفتيتهم أن فيها درهم، فقال‏:‏ إنكم بأهل مصرٍ كثيرة دراهمكم، لتمرة خير من جرادة‏.‏

أفلا ترى عمر لم ينكر على كعب تركه سؤال القوم عن قتل المحرم للجرادة إن كان عمدًا أو خطأ؛ لاستواء الحكم فى ذلك عنده‏.‏

ولو اختلف الحكم فى ذلك عنده لأنكر عليه تركه السؤال عن ذلك، وهذا ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو كلهم قد أجاب فيما أصاب المحرم بوجوب الجزاء، ولم يسأل أحد منهم عن عمدٍ فى ذلك ولا خطأ، ولا يكون ذلك إلا لاستواء الحكم عندهم فى ذلك‏.‏

ثم إن السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على هذا المعنى، روى جرير ابن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبى عمار، عن جابر‏:‏ ‏(‏أن النبى عليه السلام سئل عن الضبع، فقال‏:‏ هى صيد، وفيها إذا أصابها المحرم كبش‏)‏ ورواه عطاء عن جابر، فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزاء فى الصيد ولم يذكر فى ذلك عمدًا ولا خطأ؛ ثبت أن ذلك سواء فى وجوب الجزاء، وقال الزهرى‏:‏ نزل القرآن بالعمد، وهو فى الخطأ سنة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والقياس يدل على هذا المعنى لأنا قد رأينا الله تعالى قد حرم على المحرم أشياء منها‏:‏ الجماع، وقتل الصيد، مع سائر ما حرمه الله عليهم سواهما، فكان مَنْ جَامع فى إحرامه عامدًا أو ساهيًا فى وجوب الدم وفساد الحج، وكذلك قتل الصيد كالجماع، سواء يستوى فيه العمد والخطأ، والخطأ بالكفارة أقل من العمد؛ لأن الله تعالى جعل فى كتابه على من قتل مؤمنًا خطأ ولم يوجبها على من قتله متعمدًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ واحتج أهل الظاهر بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏رفع عن أمتى الخطأ والنسيان‏)‏ قال‏:‏ والفقهاء مجمعون أن الخطأ والنسيان ليس فى غتلاف الأموال، وإنما المراد به رفع المأثم‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وما رواه أهل الظاهر عن ابن عباس فإسناده ضعيف، رواه قتادة عن رجل، عن ابن عباس‏.‏

واختلفوا فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فقال ابن القصار عن مالك‏:‏ إذا قتل المحرمُ صيدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فى المنظر، فعليه مثله، ففى الغزال شاة، وفى النعامة بدنة، وفى حمار الوحش بقرة‏.‏

وبه قال مجاهد والحسن والشافعى‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ الواجب فى قتل الصيد القيمة، سواء كان له مِثْلٌ النَّعَم أم لا، وهو بالخيار بين أن يتصدق بقيمته وبين أن يصرف القيمة فى النعم فيشتريه ويهديه، وقالوا‏:‏ لما لم يجز أن يراد بالمثل المثل من الجنس، عُلم أن المراد به القيمة، وأنها تصرف فى النعم والدليل على أن المراد بالمثل القيمة قوله‏:‏ ‏(‏لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وهذا لفظ عام فى جميع الصيد، سواء كان له مثل أو لا، ومعلوم أن ما لا مثل له من جنسه ونظيره؛ فإن الواجب فى إتلافه القيمة، فصار المراد بالمثل القيمة فى أحد الأمرين فينبغى أن يكون المراد بالنظير؛ لامتناع أن يعبر باللفظ الواحد على معين مجانس؛ لأن القيمة متى صارت مرادة بالآية فى أحد نوعى الصيد صارت كالمذكورة فى الآية، فبقى حمل الآية على غيرها‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فالجواب أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فالمراد به مثل المقتول، ولو اقتصر عليه ولم يقيده بالنعم لكان الواجب فى الظبى ظبيًا، وفى النعامة نعامة، وفى بقرة الوحش بقرة، فلما قال‏:‏ ‏(‏مِنَ النَّعَمِ ‏(‏أوجب أن يكون الجزاء مثل المقتول من النعم لا من غيره، ومثله من النعم ليس هو القيمة، والمماثلة من طريقة الخلقة مشاهدة محققة، وما طريقها القيمة طريقها الاستدلال‏.‏

ولما خص الله النعم من سائر الحيوان لم تكن له فائدة، إلا أن المراد المثل من طريق الخلقة والصورة من النعم دون القيمة، ولم يعقل منه مثل ما قتل من الدراهم؛ لأنه لو اقتصر على قوله‏:‏ ‏(‏فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ لم يعقل منه مثله من الدراهم، فتقييده بالنعم أولى ألا يعقل منه الدراهم، وقد يراد بالآية الحقيقة فى موضع والمجاز فى آخر، فيكون المثل من النعم فى قتل الغزال والنعامة وبقرة الوحش، وفيما لا مثل له القيمة، وإنما يتنافى ذلك فى حالة واحدة، فأما فى حكمين فلا‏.‏

قال المهلب‏:‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال مالك وجماعة الفقهاء غير أبى حنيفة‏:‏ فى الحمامة شاة، وليست الشاة مماثلة للحمامة‏.‏

يقال له‏:‏ أغفلت، وذلك أن اشتراطه تعالى فى المثل أن يكون من النعم، والطير ليست من النعم، فوجب أن يكون كل جزاء يغرم من النعم لا منجنس الحيوان المقتول؛ لأن الجزاء لا يكون إلا هديًا كما شرط الله‏)‏ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وأقل الهدايا من النعم شاة، فوجب هدى المقتول مما يكون هديًا لا مماثلا من جميع الجهات كما ظنالمخالف‏.‏

واختلفوا فى قوله‏:‏ ‏(‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فقال مالك‏:‏ لا يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين‏.‏

وجوزه الثورى والشافعى، واختلف أصحاب أبى حنيفة على القولين، قال ابن القصار‏:‏ والحجة لقول مالك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ فيحتاج إلى حكمين غيره يحكمان، كما يحتاج إلى شاهدين غيره‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ووجدنا الحكومات المذكورات فى كتاب الله فيما سوى ذلك إنما يكون من غير المحكوم عليهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏ ولا يجوز أن يكون الزوج الحكم الذى من أهله، وإنما يكون من عُلم عدله، وأُمن على المحكوم عليه وعلى المحكموم له، ولم يكن جارا إلى نفسه ولا دافعًا عنها شيئًا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اتفق مالك والكوفيون والشافعى وأحمد وأبو ثور أنه بالخيار، إن شاء أتى بالهدى، وإن شاء صام، وإن شاء تصدق، وقال الثورى‏:‏ إن لم يجد هديا أطعم، فإن لم يجد طعامًا صام‏.‏

وقال الحسن والنخعى‏:‏ إن لم يكن عنده جزاؤه قُوِّم بدراهم، ثم قومت الدراهم بطعام وصام، وإنما أريد بالطعام الصيام‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ إنما الطعام والصيام فيما لا يبلغ ثمن الهدى‏.‏

والصواب قول من جعله بالخيار؛ لقول ابن عباس‏:‏ كل شىء أراد فهو مخير، وما كان فإن لم يجد فهو الأول فالأول‏.‏

واختلفوا فى الصوم المعدل فى القيمة، فكان بعضهم يقول‏:‏ يصوم عن كل نُدَّيْن يومًا‏.‏

هذا قول ابن عباس، وبه قال الثورى والكوفيون وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال بعضهم‏:‏ يصوم عن كل مُدٍّ يومًا‏.‏

هذا قول عطاء ومالك والشافعى، قال الطحاوى‏:‏ فنظرنا فى ذلك، فوجدنا النبى صلى الله عليه وسلم قد أمر كعب بن عجرة أن يطعم كل مسكين يومًا واحدًا، كان يصوم اليوم الواحد عن المُدَّين‏.‏

واختلفوا فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ هذا الوعيد معه جزاء عائد على مُصيب الصيد، كما كان عليه فى إصابته إياه بدءًا‏.‏

فذهب بعضهم إلى أنه لا جزاء عليه فى ذلك إلا أول مرة، فإن عاد تُرك والنقمة، روى هذا عن شريح وذكره ابن المنذر عن ابن عباس وشريح والنخعى والحسن وقتادة ومجاهد‏.‏

وذهب الكوفيون ومالك والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه يحكم عليه بالجزاء كل مرة أصابه، قال الطحاوى‏:‏ وهذا الصواب؛ لأنا روينا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم، أنهم حكموا على المُحْرِمين بإصابة الصيد ولم يسأل أحد منهم المحكوم عليه هل أصاب صيدًا قبل إصابته ذلك الذى حكموا فيه بالجزاء، فدل ذلك على أنه لا فرق عندهم بين البدء والعود، والنظر يدل على ذلك؛ لأنا رأينا أشياء منع الله منها المحرمين، منها الجماع وقتل الصيد وغير ذلك، وكان من جامع فى إحرامه فوجب عليه الهدى فأهداه، ثم جامع ثانية فى إحرامه فوجب عليه الهدى أيضًا، كذلك الصيد، فإن قيل‏:‏ إنما أثنيت الكفارة على العائد لوقع النقمة عليه‏.‏

قيل‏:‏ أو ليس إنما كان منتقمًا منه بمعصية الله، أفرأيت إن قتل الصيد بدءًا عالمًا منتهكًا للحرمة، أما كان يجب عليه فى ذلك نقمة وكان عليه الجزاء، فكذلك إذا عاد، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ إن شاء ذلك؛ لأن أحكام الوعيد فى العقوبات كذلك كانت عند العرب، إن شاء الله أوعد بها أنجزها، وإن شاء تركها‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع اهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وبيعه وشراؤه واختلفوا فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ وسأذكره فى كتاب الصيد‏.‏

باب إِذَا صَادَ الْحَلالُ، فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ فَأَكَلَهُ

وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا، وَهُوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نَحْوُ الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، أنَّهُ انْطَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَحُدِّثَ النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ، تَضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِى، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَرْفَعُ فَرَسِى شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ بَنِى غِفَارٍ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، قُلْتُ‏:‏ أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فَانْتَظِرْهُمْ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، وَعِنْدِى مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ‏:‏ ‏(‏كُلُوا‏)‏، وَهُمْ مُحْرِمُونَ‏.‏

وفى حديث أبى قتادة من الفقه أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده حلال، وفى ذلك دليل أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ معناه‏:‏ الاصطياد، وقيل‏:‏ الصيد وأكل الصيد لمن صاده، وإن لم يصده فليس ممن عُنى بالآية، يبين ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ لأن هذه الآية إنما نُهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير‏.‏

وهذه مسألة اختلف فيها السلف قديمًا، فذهبت طائفة إلى أنه يجوز للمحرم أكل ما صاده الحلال، روى هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان والزبير وعائشة وأبى هريرة، وإليه ذهب الكوفيون، وذهبت طائفة إلى أن ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله، وما لم يُصد له فلا بأس بأكله، وهو الصحيح عن عثمان، وروى عن عطاء، وهو قول مالك فى العتبية وكتاب ابن المواز، وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وذكر ابن القصار أن المحرم إذا أكل ما صيد من أجله فعليه الجزاء، استحسان لا قياس‏.‏

وعند أبى حنيفة والشافعى‏:‏ لا جزاء عليه‏.‏

واحتج الكوفيون بقوله عليه السلام للمحرمين‏:‏ ‏(‏كلوا‏)‏ قالوا‏:‏ فقد علمنا أن أبا قتادة لم يصده فى وقت ما صاده إرادةً منه أن يكون له خاصَةً، وإنما أراد أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، فقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك له ولهم، ولم يحرمه لإرادته أن يكون لهم معه، قاله الطحاوى‏.‏

قال‏:‏ والنظر يدل على ذلك؛ لأنهم أجمعوا أن الصيد يحرمه الإحرام على المحرم، ويحرمه الحرم على الإحلال، وكان من صاد صيدًا فى الحل فذبحه فيه، ثم أدخله الحرم فلا بأس بأكله فيه، ولم يكن إدخاله لحم الصيد الحرم كإدخاله الصيد حيا فى الحرم؛ لأنه لو كان كذلك لنهى عن إدخاله فيه، ولمنع من أكله كما يمنع من الصيد، ولكان إذا أكله فى الحرم وجب عليه ما يجب فى قتله، فلما كان الحرم لا يمنع من لحم الصيد الذى صيد فى الحل كما يمنع من الصيد الحى؛ كأن النظر على ذلك أن يكون الإحرام يحرم على المحرم الصيد، ولا يحرم عليه لحمه إذا تولى الحلاُ ذبحه قياسًا ونظرًا‏.‏

وحجة الذين أجازوا للمحرم أكل ما لم يصد له، أن أبا قتادة إنما صاده لنفسه لا للمحرمين، وكان وَجَّهَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق البحر مخافة العدو، فلم يكن محرمًا حين اجتمع مع أصحابه؛ لأن مخرجهم لم يكن واحدًا، فلم يكن صيده للمحرمين ولا بعونهم، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فأبوا أن يعينونى‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فلذلك أجاز لهم عليه السلام أكله، قالوا‏:‏ وعلى هذا تتفق الأحاديث المروية عن النبى عليه السلام فى أكل الصيد ولا تتضاد‏.‏

وقد روى هذا المعنى عن النبى عليه السلام روى ابن وهب، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم‏)‏‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال، ولا يجوز لمحرمٍ آكله البتة، على ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ هى مبهمة‏.‏

وهو مذهب على وابن عمر، وبه قال الثورى، وهى رواية القاسم عن مالك فى المدونة، وبه قال إسحاق، واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة ‏(‏أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارَ وحشٍ وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه وقال‏:‏ لم نَرُدَّهُ عليك إلا أنا حرم‏)‏ فلم يعتل بغير الإحرام، واعتل من أجاز أكله بأنه عليه السلام إنما رده لأنه كان حيا، ولا يحل للمحرم قتل الصيد، ولو كان لحمًا لم يرده؛ لقوله فى حديث أبى قتادة، وستأتى رواية من روى أن الحمار كان مذبوحًا فى باب‏:‏ إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيا لم يقبل‏.‏

وأما قول البخارى‏:‏ ولم ير ابن عباس وأنس بالذبح بأسا، وهو غير الصيد‏.‏

فهو قول جماعة العلماء، لا خلاف بينهم أن الداجن كله من الإبل والبقر والغنم والدجاج وشبهه يجوز للمحرم ذبحه؛ لأن الداجن كله غير داخل فى الصيد المحرَّم على المحرِم، وأما أكل الخيل فأجازه أبو يوسف ومحمد والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل الحديث؛ لحديث جابر وأسماء أنهم أكلوه على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وكره أكل الخيل مالك وأبو حنيفة، وستأتى هذه المسألة فى كتاب الذبائح إن شاء الله‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ شأوت القوم شأوا‏:‏ سبقتهم، والشأو‏:‏ الطلق‏.‏

باب إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلالُ

- فيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ أُحْرِمْ، فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ، فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِى بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ، فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏بَاب لا يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلالَ فِى قَتْلِ الصَّيْدِ‏)‏، وقال فيه‏:‏ ‏(‏كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِالْقَاحَةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابِى يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، يَعْنِى وَقَعَ سَوْطُهُ، فَقَالُوا‏:‏ لا نُعِينُكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب لا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلالُ‏)‏، وقال فيه‏:‏ فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما لم يجعل النبى عليه السلام ضحك المحرمين بعضهم إلى بعض دلالة على الصيد، وأباح لهم أكله؛ لأن ضحك المحرم إلى المحرم مثله، مما لا يحل له الصيد، لا حرج فيه، وإن كان قد آل إلى أن تنبه عليه أبو قتادة، فلم يكن أبو قتادة عندهم ممن خرج يقتنص صيدًا، فلذلك لم يجب عليهم جزاء، ولا حرم عليهم أكله، وأما إن أشار محرم على قناصٍ أو طالبٍ له، أو أغراه به، أو أعطاه سلاحًا، أو أَعَانَهُ بأى، فيكره له أكله؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى قتادة، ‏(‏أمنكم أحد أمر أن يحمل عليها، أو أشار إليها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ كلوا ما بقى من لحمها‏)‏‏.‏

وفى ذلك دليل أنه لا يحرم عليهم بما سوى ذلك، ودل ذلك على أن معنى قوله عليه السلام فى حديث عَمرو مولى المطلب‏:‏ ‏(‏أو يُصَد لكم‏)‏ أنه على ما صيد لهم بأمرهم‏.‏

وقال غيره‏:‏ وهذا يدل أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له، واختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة‏:‏ إن دل محرم حلالا على صيد، أو أشار إليه، أو ناوله سيفًا أو شبهه حتى قتله، فعلى المحرم الدال أو المعين له الجزاء، روى ذلك عن على وابن عباس، وقال به عطاء، وإليه ذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق، واحتج بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏هل أشرتم أو أعنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏)‏ فدل ذلك أنه إنما يحرم عليهم إذا فعلوا شيئًا من هذا، ولا يحرم عليهم بما سوى ذلك، فجعل المشاورة والمعاونة كالقتل؛ لأن الدلالة بسببٍ يُتوصل به إلى إتلاف الصيد، فوجب الجزاء، دليله‏:‏ من نصب شبكه حتى وقع فيها صيد فمات‏.‏

وقال مالك وابن الماجشون والشافعى وأبو ثور‏:‏ لا جزاء على الدال‏.‏

وهو قول أصبغ ابن الفرج، واحتج أهل هذه المقالة فقالوا‏:‏ الدال ليس بمباشر للقتل، وقد اتفقنا أنه لو دَلَّ حلال حلالا على قتل صيد فى الحرم لم يكن على الدال جزاء؛ لأنه لم يحصل منه قتل الصيد، فكذلك هاهنا، وقد تقرر أنه لو دل على رجل مسلم فقتله المدلول، لم يجب على الدال ضمان، وحُرمة المسلم أعظم من حرمة الصيد، ولا حجة للكوفيين فى حديث أبى قتادة؛ لأنه إنما سألهم عن الإشارة والمعاونة، دل أنه يكره لهم أكله، أو يحرم عليهم، ولم يتعرض لذكر الجزاء، فمن أثبت الجزاء فعليه الدليل‏.‏

وأيضًا فإن القاتل انفرد بقتله بعد الدلالة بإرادته واختياره مع كون الدال منفصلا عنه، فلا يلزمه ضمان، وهذا كمن دل محرمًا أو صائمًا على امرأة فوطئها، ومحظورات الإحرام لا تجب فيها الكفارات بالدلالة، كمن دل على طيب أو لباس‏.‏

باب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا لَمْ يَقْبَلْ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أن الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلا أَنَّا حُرُمٌ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيدٍ، حتى إذا وُهب له بعد إحرامه، ولا يجوز له شراؤه، ولا إحداث ملكه؛ لعموم قوله‏:‏ ‏(‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ ولحديث صعب، فإنما رده عليه السلام؛ لأنه لا يحل للمحرم تذكية الصيد ولا إهلاله، وقال أشهب‏:‏ سمعت مالكًا يقول‏:‏ كان الحمار حيا‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس جماعة من أصحابه‏:‏ سعيد بن جبير وعطاء ومقسم وطاوس، ففى حديث سعيد ابن جبير ‏(‏أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيا فرده، وكان مذبوحًا‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏أهدى إليه عجز حمار فرده يقطر دمًا‏)‏‏.‏

وقال مقسم‏:‏ ‏(‏رِجْل حمار‏)‏‏.‏

وقال عطاء‏:‏ ‏(‏عضد صيد‏)‏‏.‏

وقال طاوس‏:‏ ‏(‏لحم حمار وحش‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ قد اتفقت هذه الآثار فى حديث الصعب عن ابن عباس أن الحمار كان غير حى، فذلك حجة لمن كره للمحرم أكل الصيد، وإن كان الذى تولى صيده وذبحه حلال وقد خالف ذلك حديث المطلب عن جابر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واختلاف هذه الروايات يدل على أنه لم تكن قصة واحدة، وإنه كان فى أوقات مختلفة، فمرة أهدى إليه الحمار كله، ومرة أهدى إليه عجزه لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه، حتى يقع فيه التضاد فى النقل والقصة واحدة، والله أعلم‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبى عليه السلام ولولا ذلك كان أكله جائزًا، قال سليمان‏:‏ ومما يدل على أنه صيد من أجله قوله فى الحديث‏:‏ ‏(‏فرده يقطر دمًا‏)‏ كأنه صيد فى ذلك الوقت‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وأما رواية مالك أنه أهدى إليه حمار وحش، فلا تحتاج إلى تأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له إمساك صيد حى ولا يذكيه، وإنما يحتاج إلى التأويل من روى أنه أهدى إليه بعض الحمار‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث غير مختلفة، أعنى حديث الهدى فى الحمار العقير، وحديث أبى قتادة، وحديث الصعب، ويفسرها كلها حديث المطلب عن جابر أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم‏)‏ وقد ذكرته فى باب‏:‏ إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ معناه‏:‏ أو يُصد لكم بأمركم‏.‏

قال غيره‏:‏ وهذا الحديث يشهد لمذهب مالك أنه أعدل المذاهب وأولاها بالصواب‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث الصعب من الفقه رد الهدية إذا لم تحل للمهدَى له، وفيه الاعتذار لرد الهدية‏.‏

باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ ‏(‏خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِى قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ‏)‏‏.‏

وقال ابْن عُمَرَ‏:‏ قَالَتْ حَفْصَةُ‏:‏ قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، لا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ‏:‏ الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، عن النَّبِىّ عليه السَّلام مثل معناه‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى غَارٍ بِمِنًى؛ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ‏)‏ وَالْمُرْسَلاتِ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 1‏]‏ وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا، وَإِنِّى لأتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا؛ إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقْتُلُوهَا‏)‏، فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ أَرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ مِنًى مِنَ الْحَرَمِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِقَتْلِ الْحَيَّةِ بَأْسًا‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَزَغِ‏:‏ ‏(‏فُوَيْسِقٌ‏)‏، وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ‏.‏

أجمع العلماء على القول بجملة الأحاديث، إلا أنهم اختلفوا فى تفصيلها، فقال بظاهر حديث ابن عمر وحفصة‏:‏ مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، قالوا‏:‏ ولم يعن بالكلب العقور الكلاب الإنسية، وإنما عنى بذلك كل سبع يعقر، كذلك فسره مالك وابن عيينة وأهل اللغة‏.‏

وقال الخليل‏:‏ كل سبع عقور كلب‏.‏

وذكر ابن عيينة أن زيد بن أسلم فسره له كذلك، وكلهم لا يرى ما ليس من السباع فى طبعه العقر والعداء فى الأغلب من معنى الكلب العقور فى شئ، ولا يجوز عندهم للمحرم قتل الهر الوحشى ولا الثعلب ولا الضبع‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يقتل المحرم من السباع إلا الخمس المذكورة فى الحديث فقط، والكلب العقور عنده الكلب المعروف، وليس الأسد فى شىء منه‏.‏

وأجازوا قتل الذئب خاصة من غير الخمس، وسوى هذه الخمس والذئب ابتدأته أم لا، ولا شىء عليهم فيها، وأما غيرها من السباع فلا يقتلها؛ فإن قتلها فداها إلا أن تبتدئه، فإن بدأته فقتلها فلا شىء عليه‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا جزاء فى قتل جميع ما يكل، سواء كان طبعه الابتداء بالضرر أم لا، ولا جزاء عنده إلا فى قتل صيد حلال أكله من سباع الوحش أو الطير‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة على أبى حنيفة أن الكلب العقور اسم لكل ما يتكلب من أسد أو نمر أو فهد، فيجب أن يكون جميع ما يتناوله هذا الاسم داخل تحت ما أبيح للمحرم قتله‏.‏

وقد روى زيد ابن أسلم عن عبد ربه، عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ الكلب العقور‏:‏ الأسد‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم فى عتبة بن أبى لهب‏:‏ ‏(‏اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك‏.‏

فعدا عليه الأسد فقتله‏)‏‏.‏

فإذا أباح عليه السلام قتل الكلب العقور لخوف عقه وضرره، فالسبع الذى يفترس ويقتل أعظم وأولى؛ لأنه لا يجوز أن يمنع من قتله مع إباحه قتل ما هو دونه، ولما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏خمس فواسق يقتلن‏)‏ فسماهن فواسق لفسقهن وخروجهن لما عليه سائر الحيوان، لما فيهن من الضرر، فأباح قتلهن لهذه العلة، كان الضرر الذى فى الأسد والنمر والفهد أعظم، فهو بالفسق وإباحة القتل أولى؛ لأنه إذا نص على شىء لضرره، فإنما نبه بذلك على أن الجنس الذى هو أكثر ضررًا أولى بذلك‏.‏

كما ذكر الحية والعقرب، فنبه بهما على ما هو أعظم ضررًا من جنسهما، ونص على الفأرة، ونبه على ما هو أقوى حيلة من جنسها، ونص على الغراب والحِدَأ؛ لأنهما ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ ويأخذان أزواد الناس، فكذلك نص على الكلب لينبه به على ما هو أعظم ضررًا منه، وأجاز قتل الأفعى، وهى داخلة عنده فى معنى الكلب العقور، والكلب العقور عنده صفة، لا عين مسماة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد نقض أبو حنيفة أصله فى الذئب فألحقه بالخمس، وليس بمذكور فى الحديث، فكذلك يلزمه أن يجعل الفهد والنمر وما أشبههما فى العدى بمنزلة الذئب‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الضبع من السباع، وهى غير داخلة عندكم فيما أبيح للمحرم قتله، قيل‏:‏ قد قال الأوزاعى‏:‏ كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها‏.‏

وذكر ابن حبيب عن مالك قال‏:‏ لا يقتل الضبع بحال، وقد جاء أن فيها شاة إلا أن تؤذيه‏.‏

وكذلك قال فى الغراب والحدأة‏.‏

قال أشهب‏:‏ سألت مالكًا‏:‏ أيقتلها المحرم من غير أن يضراَّ به‏؟‏ قال‏:‏ لا، إنما أذن فى قتلهما إذا أضراَّ فى رأيى، وإذا لم يضراَّ فهما صيد، وليس للمحرم أن يصيد، وليسا مثل العقرب والفأرة، ولا بأس بقتلهما وإن لم يضراَّ، وكذلك الحية‏.‏

والحجة على الشافعى فى أنه لا يوجب الجزاء فيما خاصَّةُ عمومُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ والصيد‏:‏ عبارة عن الاصطياد، والأصطياد يقع على ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وليس المعتبر فى وجوب الجزاء كون المقتول مأكولا؛ لأن الحمار المتولد عن الوحشى والأهلى لا يؤكل، وفى قتله الجزاء على المحرم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا خلاف بين العلماء فى جواز قتل المحرم وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا‏:‏ لا يقتل الغراب، ولكن يرمى‏.‏

وهذا خلاف السنة وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا‏:‏ لا يقتل الغراب، ولكن يرمى‏.‏

وهذا خلاف السنة، وشذت فرقة من أهل الحديث فقالوا‏:‏ لا يقتل المحرم إلا الغراب الأبقع خاصة‏.‏

ورووا فى ذلك حديثًا عن قتادة، عن ابن المسيب، عن عائشة، عن النبى عليه السلام وهذا الحديث لا يعرف من حديث ابن المسيب، ولم يروه عنه غير قتادة، وهو مدلس، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم، مع معارضته حديث ابن عمر وحفصة، فلا حجة فيه، وأجمع العلماء على جواز قتل الحية فى الحل والحرم، وقال سفيان‏:‏ قال لنا زيد ابن أسلم‏:‏ وأى كلب أعقر من الحية‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ قد صح أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات، فما أنت قائل فيما روى مالك عن نافع، عن أبى لبابة بن عبد المنذر أخبره ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل حيات البيوت‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم بظاهر أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات كلهامن غير استثناء شىء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس منى‏)‏ روى هذا القول عن عمر وابن مسعود‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا ينبغى أن يقتل عوامر البيوت وسكانها إلا بعد مناشدة العهد الذى أخذ عليهن، فإن ثبت بعد إنشاده قُتل، واعتلوا بحديث أبى سعيد الخدرى أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإن رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه شيطان‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وجميع هذه الأخبار عن النبى عليه السلام حق وصدق، وليس فى شىء منها خلاف لصاحبه، والرواية عن النبى عليه السلام أنه أمر بقتل الحيات من غير استثناء شىء منها خبر مجمل، بَّين معناه الخبرُ الآخر أن النبى عليه السلام نهى عن قتل جنان البُيوت وعوامرها إلا بعد النشدة بالعهود والمواثيق التى أخذ عليها حذار الإصابة، فأقل ذلك شيئًا من التمثل بالحيات، فيلحقه من مكروه ذلك ما لحق الفتى المعرس بأهله، إذ قتل الحية التى وجدها على فراشه قبل مناشدته إياها، وذلك أنه ربما تمثل بعض الجن ببعض صور الحيات، فيظهر لأعين بنى آدم، كما روى ابن أبى مليكة عن عائشة بنت طلحة، أن عائشة أم المؤمنين رأت يومًا فى مغتسلها حية فقتلتها، فأتيت فى منامها فقيل لها‏:‏ إنك قتلت مسلمًا‏.‏

فقالت‏:‏ لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين‏.‏

فقيل‏:‏ ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك‏.‏

فأصبحت فزعة، ففرقت فى المساكين اثنا عشر ألفا‏.‏

وقال ابن نافع‏:‏ لا ينذر عوامر البيوت إلا بالمدينة خاصة على ظاهر الحديث‏.‏

وقال مالك‏:‏ أحب إلى أن تنذر عوامر البيوت بالمدينة وغيرها، وذلك بالمدينة أوجب، ولا ينذر فى الصحارى‏.‏

وقال غيره‏:‏ المدينة وغيرها سواء فى الإنذار؛ لأن العلة إسلام الجن، ولا يحل قتل مسلم جنى ولا إنسى‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى تسمية النبى صلى الله عليه وسلم الوزغ‏:‏ فواسقًا ما يدل على عقرها، كما سمى العقورات كلها‏:‏ فواسق، وقد روى الدراوردى عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعد بن أبى وقاص ‏(‏أن النبى عليه السلام أمر بقتل الوزغ‏)‏ ولكن الحديث مرسل؛ لأن ابن شهاب بينه وبين سعد رجل، وذكر ابن المواز عن مالك قال‏:‏ سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، فأما المحرم فلا يقتلها؛ فإن قتلها رأيت أن يتصدق مثل شحمة الأرض‏.‏

قيل له‏:‏ وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم فى قتلها‏؟‏ قال‏:‏ وكثير مما أذن الرسول صلى الله عليه وسلم فى قتله لا يقتله المحرم‏.‏

وروى ابن القاسم وابن وهب، عن مالك قال‏:‏ لا أرى أن يقتل المحرم الوزغ؛ لأنه ليس من الجنس الذى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلهن؛ فإن قتلها تصدق‏.‏

قال‏:‏ ولا يقتل المحرم قردًا ولا خنزيرًا ولا الحية الصغيرة ولا صغار السباع‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ ما يجوز للمحرم قتله فصغاره وكباره سواء لا شىء عليه فى قتلها‏.‏

وقال مالك فى الموطأ‏:‏ ولا يقتل المحرمُ ما ضَرَّ من الطير إلا ما سَمَّى الرسولُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الغراب والحدأة، فإن قتل غيرهما من الطير فَدَاهُ‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ واختلف المدنيون فى الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، فإن عرض لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه فيه شئ‏.‏

وذكر ابن المنذر أن عمر بن الخطاب كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد‏:‏ لا جزاء فيه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يُطعم شيئًا‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ وإنما لم يدخل أولاد الكلب العقور فى حكمه؛ لأنهن لا يعقرن فى صغرهن، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس فواسق، والفواسق‏:‏ فواعل، والصغار لا فعل لهن‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ أصل الفسق الخروج عن الشئ، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ أى‏:‏ خرج، وسمى الرجل فاسقًا لانسلاخه من الخير‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ لا أرى الغراب سماه فاسقًا إلا لتخلفه عن أمر نوح حين أرسله، ووقوعه على الجيفة وعصيانه إياه‏.‏

وحكى عن الفراء أنه قال‏:‏ ما أحسب الفأرة سميت فويسقة إلا لخروجها من جحرها على الناس‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ ولا يعجبنى واحد من القولين، وقد بقى عليهما أن يقولا مثل ذلك فى الحدأة والكلب، إذ كان هذا النعت يجمعهما، وهذا اللقب يلزمهما لزومه الغراب والفأرة، وإنما أراد والله أعلم بالفسق الخروج من الحرمة، يقول‏:‏ خمس لا حرمة لهن، ولا بغيًا عليهن، ولا فدية على المحرم فيهن إذا أصابهن، وإنما أباح قتلهن لعاديتهن‏.‏

وفيه‏:‏ وجه آخر، وهو أن يكون أراد بتفسيقها تحريم أكلها، كقوله تعالى وقد ذكر المحرمات‏:‏ ‏(‏ذَلِكُمْ فِسْقٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ يدل على صحة هذا ما رواه المسعودى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏الغراب فاسق‏.‏

فقال رجل من القوم‏:‏ أيؤكل لحم الغراب‏؟‏ قالت‏:‏ لا، ومن يأكله بعد قوله‏:‏ فاسق‏)‏‏.‏

وروت عمرة مثله عن عائشة وقالت‏:‏ والله ما هو من الطيبات، تريد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ ومما يدل على أن الغراب يقذر لحمه قول الشاعر‏:‏

فما لحم الغراب لنا بزاد *** ولا سرطان أنهار البريص

باب لا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو شُرَيْح، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ‏:‏ ائْذَنْ لِى أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِى، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاىَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخُرْبَةٍ‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يعضد بها شجرة‏)‏ يعنى‏:‏ لا يفسد ولا يقطع، وأصله من عضد الرجلُ الرجلَ، إذا أصاب عضده ذلك، عضد فلان فلانًا يعضد عضدًا، وفى كتاب العين‏:‏ العضد من السيوف‏:‏ الممتهن فى قطع الشجر‏.‏

قال الطبرى‏:‏ لا يجوز قطع أغصان شجر مكة التى أنشأها الله فيها مما لا صنع فيه لبنى آدم، إذا لم يجز قطع أغصانها فقطع شجرها بالنهى عن ذلك أولى‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم، واختلفوا فيما يجب على من قطعها، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه إلا الاستغفار، وهو مذهب عطاء، وبه قال أبو ثور، وذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب مثل معناه‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إن قطع ما أنبته آدمى فلا شىء عليه، وإن قطع ما أنبته الله كان عليه الجزاء حلالا كان أو حرامًا، فإن بلغ هديًا كان هديًا، وإن قُوم طعامًا فأطعم كل مسكين نصف صاع‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ عليه الجزاء فى الجميع، المحرم والجلال فى ذلك سواء، فى الشجرة الكبيرة بقرة، وفى الخشب قيمته ما بلغت دمًا كان أو طعاما‏.‏

وحكى بعض أصحاب الشافعى أن مذهبه كمذهب أبى حنيفة فيما أنبته الآدمى، ذكره ابن القصار، واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يقطع شجرها‏)‏ قالوا‏:‏ وهذا نهى يقتضى التحريم، وإذا ثبت تحريمه وجب فيه الجزاء كالصيد‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيقال لهم‏:‏ النهى عن قطعه لا يدل على وجوب الجزاء، كالنهى عن تنفير الصيد والإشارة والمعاونة عليه، وقد روى أن عمر بن الخطاب رأى رجلا يقطع من شجر الحرم، فسأله‏:‏ لِمَ تقطعه‏؟‏ فقال‏:‏ لا نفقة معى، فأعطاه نفقةً ولم يوجب عليه شيئًا‏.‏

ولو كان قطع الشجر كالصيد لوجب على المحرم إذا قطعها فى حل أو حرم كما يجب فى الصيد‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا أجد دلالة أوجب بها فى شجر الحرم شيئًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وبقول مالك أقول، وأجمع العلماء على إباحة أخذ كل ما ينبته الناس فى الحرم من البقول والزرع والرياحين وغيرها، فوجب أن يكون ما يغرسه الناس من النخيل والشجر مباح قطعه؛ لأن ذلك بمنزلة الزرع الذى يزرعونه، فقطعه جائز، وما يجوز قطعه فمحال أن يكون فيه جزاء، هذا يقال للشافعى، فإن قال‏:‏ فأوجب الجزاء فيما أنبته الله‏.‏

قيل‏:‏ لا أجد دلالة أُوجب بها ذلك من كتاب ولا سنة ولا إجماع، فوجب رَدُّ ما أنبته الله إلى ما أنبته الآدمى فى سقوط الجزاء ‏(‏فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا‏)‏ اختلف العلماء فيمن أصاب حدا فى غير الحرم من قتل أو زنا أو سرقة، ثم لجأ إلى الحرم، هل تنفعه استعاذته‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يجالس ولا يبايع ولا يكلم ولا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ حتى يخرج منه، فيؤخذ بالواجب لله عليه، وإن أتى حدا فى الحرم أقيم عليه فيه‏.‏

روى ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء والشعبى والحكم، وعلة هذه المقالة ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ قالوا‏:‏ فجعل الله حرمه آمنا لمن دخله، فداخله آمن من كل شىء وجب عليه قبل دخوله حتى يخرج منه، وأما من كان فيه فأتى فيه حدا فالواجب على السلطان أخذه به؛ لأنه ليس ممن دخله من غيره‏.‏

قاله الطحاوى والطبرى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وعلتهم فى أنه لا يكلم ولا يبايع حتى يخرج من الحرم أنه لما كان غير محظور عليهم، كان لهم فعله؛ ليكون سببًا إلى خروجه وأخذ الحدِّ منه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يُخرج من لجأ إلى الحرم حتى يخرج منه فيقام عليه الحد، ولم يحظروا مبايعته ولا مجالسته‏.‏

روى ذلك عن ابن عمر، وقال‏:‏ لو وجدت قاتل عمر فى الحرم ما هجته‏.‏

وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم أَمنا لمن دخله، ومن كان خائفًا وقوع الاحتيال عليه، فإنه غير آمن، فغير جائز إخافته بالمعانى التى تضطره إلى الخروج منه لأخذه بالعقوبة التى هرب من أجلها‏.‏

وقال آخرون‏:‏ من أتى فى الحرم ما يجب به عليه الحد؛ فإنه يقام عليه ذلك فيه، ومن أتاه فى غيره فدخله مستجيرًا به، فإنه يُخرج منه ويُقام عليه الحد‏.‏

روى ذلك عن ابن الزبير والحسن ومجاهد وعطاء وحماد، وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم لمن دخله أمنةً من أن يعاقب فيه، ولم يجعله أمنةً من الجزاء الذى أوجبه عن من فعله‏.‏

وذكر الطحاوى عن أبى يوسف قال‏:‏ الحرم لا يجير ظالمًا، وإن من لجأ إليه أقيم عليه الحد الذى وجب قبل أن يلجأ إليه‏.‏

ويشبه هذا أن يكون مذهب عمرو بن سعيد لقوله‏:‏ ‏(‏إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارا بخُرْبة‏)‏ فلم ينكر ذلك عليه أبو شريح، وقال قتادة فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ كان ذلك فى الجاهلية، فأما اليوم فلو سرق فى الحرم قُطع، ولو قَتل فيه قُتل، ولو قُدر فيه على المشركين قُتلوا، ولا يمنع الحرم من إقامة الحدود عند مالك، واحتج بعض أصحابه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة من القتل، وهذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله تعالى أمر بقطع السارق، وجلد الزانى، وأوجب القصاص أمرًا مطلقا ولم يخص به مكانا دون مكان، وفإقامة الحدود تجب فى كل مكان على ظاهر الكتاب‏.‏

ومما يشهد لذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الفواسق المؤذية فى الحرم، فقام الدليل من هذا أن كل فاسق استعاذ بالحرم أنه يقتل بجريرته، ويؤخذ بقصاص جُرْمه‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وقد أنزل الله الحدود والأحكام على العموم بين الناس، فلا يجوز أن يترك حكم الله فى حرم ولا غيره؛ لأن الذى حرم الحرم هو الذى حرم معاصيه أن ترتكب، وأوجب فيها من الأحكام ما أوجب‏.‏

وسيأتى طرف من هذه المسألة فى باب‏:‏ من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فى كتاب الديات إن شاء الله‏.‏

وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وزفر وأبى يوسف ومحمد كقول ابن عباس، إلا أنهم يجعلون ذلك أمانا فى كل حد يأتى على النفس من حدود الله وحدود عباده، مثل أن يزنى وهو محصن، أو يرتد عن الإسلام، أو يقتل رجلا عمدًا، أو يقطع طريق المسلمين، فيجب عليه القتل فيلجأ إلى الحرم فيدخله، ولا يجعلون ذلك على الحدود التى لا تأتى على النفس، كقطع السارق والقود فى قطع الأيدى وشبهها، والتعزير الواجب بالأقوال الموجبة للعقوبات‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ ولا وجه لتفريقهم بين الحدود التى تأتى على النفس وبين التى تأتى عليها؛ لأن الحرم إن كان دخوله يؤمن عند العقوبات فى الأنفس، ويؤمن فيما دونها، وإن كان لا يؤمن من العقوبات فيما دون الأنفس فلا يؤمن منها فى الأنفس، ولم يفرق ابن عباس بين شىء من ذلك، فقوله أولى من قول أبى حنيفة وأصحابه لا سيما ولا يُعلم أحد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم خالفه فى قوله‏.‏

باب لا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِى، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلا لِمُعَرِّفٍ‏)‏، وَقَالَ الْعَبَّاسُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِلا الإذْخِرَ‏)‏‏.‏

فَقَالَ عِكْرِمَةَ‏:‏ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنَ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه البيان البين أن صيد الحرم حرام اصطياده، وذلك أن النبى عليه السلام إذ نهى عن تنفير صيده؛ فاصطياده أوكد فى التحريم من تنفيره‏.‏

فإن قيل‏:‏ أفنقول‏:‏ إن نفر صيده فعليه الجزاء‏؟‏ قيل‏:‏ إن أداه تنفيره سببًا إلى هلاكه لم يجب عليه شىء غير التوبة، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء‏.‏

وقد روى عن عطاء أنه من أخذ طائرًا فى الحرم ثم أرسله قال‏:‏ يطعم شيئًا لما نفره‏.‏

وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه لا شىء فى التنفير، روى شعبة عن الحكم، عن شيخ من أهل مكة أن حمامًا كان على البيت فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار، فوقع على بعض بيوت مكة، فجاءت حية فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة، فلم ير عمر لما نفر الحمامة عليه شيئًا حتى تلفت، ورأى أن تلفها كان منسبب تنفيره، وإنما استجاز عمر تنفيره من الموضع الذى كان واقفًا عليه مع علمه أن تنفيره صيده غير جائز؛ لأنه ذرق على يده، فكان له طرده عن الموضع الذى يلحقه أذاه فى كونه فيه، وكذلك كان عطاء يقول فى معنى ذلك‏.‏

قال ابن جريح‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ كم فى بيضة الحمام‏؟‏ قال‏:‏ نصف درهم، فقال له إنسان‏:‏ بيضة وجدتها على فراشى أميطها عنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وجدتها فى سهوة وفى مكان من البيت‏؟‏ قال‏:‏ لا تمطها‏.‏

فرأى عطاء إن أماط عن فراشه بيضة من بيض حمام غير حرج، ولا لازم بإماطته إياها شئ؛ لأن مِنْ تِرْكه إياها على فراشه عليه أذى، ولم ير جائزًا إماطتها عن الموضع الذى لا أذى عليه فى كونها فيه، فكذلك كان فعل عمر فى إطارته الحمامة التى ذرقت على يده من الموضع الذى كانت واقفة عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يختلى خلاها‏)‏ يريد لا يقطع عشبها، والخلى مقصور‏:‏ كل كلأ رطب؛ فإذا يبس كان حشيشًا، قال الطبرى‏:‏ واتفق الفقهاء أن نهيه عليه السلام عن اختلاء خلاها، هو مما ينبت فيه مما أنبته الله ولم يكن لآدمى فيه صنع، فأما ما أنبته الآدميون فلا بأس باختلائه‏.‏

واختلف السلف فى الرعى فى خلاها، هل هو داخل فى نهيه عليه السلام عن الاختلاء أم لا‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ ذلك غير داخل فى النهى عن الاختلاء، ولا بأس بالرعى فيها‏.‏

روى ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد وابن أبى ليلى، قالوا‏:‏ لا بأس بالرعى فى الحرم إلا أنه لا يخبط‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحكى ابن المنذر مثله عن أبى يوسف والشافعى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وعلة هذه المقالة أن النهى إنما ورد فى الاختلاء دون الرعى فيها، والراعى غير مختل؛ لأن المختلى هو الذى يقطع الخلى بنفسه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يجوز الرعى فيها؛ لأن الرعى أكثر من الاختلاء‏.‏

هذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد، قالوا‏:‏ لو جاز أن يرعى فيها جاز أن يحتش فيه إلا الإذخر خاصة‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يحتش أحد لدابة‏.‏

واعتلوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يختلى خلاها‏)‏ واختلاؤه‏:‏ استهلاك له وإماتة، وإرعاء المواشى فيه أكثر من احتشاشه فى الاستهلاك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قلتم إن العلماء متفقون على أن النهى من الاختلاء المراد به ما أنبته الله لم بكن لآدمى فيه صنع، فكيف جوزتم اجتناء الكمأة، وهى مما أنبته الله تعالى ولا صنع فيها لبنى آدم‏؟‏ فيقال له‏:‏ إنما أجزنا ذلك؛ لأن الكمأة لا يقع عليها اسم شجر ولا حشيش، وفى إجماع الجميع على أنه لا بأس بشرب مياه آبار والانتفاع بترابه، الدليل الواضح على أن ما أحدث الله فى حرمه مطلق أخذه والانتفاع به كالمكأة؛ لأنها لا تستحق اسم كلأ ولا شجر، وإنما هى كبعض ما خلق فيها من الحجر والمدر والمياه؛ إذ لا أصل لها ثابت‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف ساغ للعباس أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم استثناء الإذخر، وهو يسمعه يحرم الاختلاء وقطع الشجر‏؟‏ قيل‏:‏ فى ذلك جوابان‏:‏ قال المهلب‏:‏ يحتمل أن يكون تحريم مكة خاصَّةً من تحريم الله تعالى ويكون سائر ما ذكر فى الحديث من تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلذلك استثنى الإذخر، ولو كان من تحريم الله ما استبيح منه إذخر ولا غيره، وقد تأتى فى آية وفى حديث أشياء فرض، ومنها سنة، ومنها رغبة، ويكون الكلام فيها كل واحد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَأن وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏ والعدل فرض، والإحسان وإيتاء ذى القربى وسنن ورغائب، ومثله قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا ركع فاركعوا، وإذا قال‏:‏ سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد‏)‏ نافلة‏.‏

وفيها قول آخر‏:‏ يحتمل أن يكون تحريم مكة وكل ما ذكر فى الحديث من تحريم الله، ويكون وجه استثنائه عليه السلام تحليل الإذخر دون استعلام الله تحليل ذلك؛ لأن الله قد كان قد أعلم نبيه فى كتابه بتحليل المحرمات عند الضرورات، فمنها أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما فى الآية وأحلها لعباده عند اضطرارهم إليها بقوله‏:‏ ‏(‏فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ فلما كان هذا أصلا من أصول الشريعة قد أنزله الله فى كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبره العباس أن الإذخر لا غنى بالناس عنه لقبورهم وبيوتهم وصاغتهم، حكم النبى عليه السلام بكم المباحات عند الضرورات، وهذا تأويل حسن‏.‏